البحث عن مرساتي الضائعة
كاظم فنجان الحمامي
بيني وبين البحر حالة عشق تشهد عليها الفنارات المغروسة في قيعان الممرات الملاحية المرتبطة بخور عبد الله ورأس البيشة, وتعترف بها الشرايين النهرية المتفرعة من شط العرب. ولم تقلقني حقيقة خوفي من مزاجه المتقلب, وصخبه المروع. فقد كنت أعلم بأنني سألوذ بسفينتي في مكان آمن, وأرمي مرساتي, وأنتظر هناك ريثما تهدأ الأمواج العالية, وتسكن الرياح العاتية. ولا أغادر المرسى إلا بعد أن يعود البحر ضاحكا مبتسما, تدغدغه أسماك الزبيدي الناعمة البراقة, وتداعبه النوارس المحلقة في فضاءات الحرية, وهي تحمل الفرح بمناقيرها المكللة بقطرات الندى البحري. وهكذا تعمقت علاقتي بالمرساة منذ سبعينيات القرن الماضي. وكنت أحسن استخدامها, وأتفاهم معها بلغة لا تفهمها إلا السفن, ولا تفك رموزها إلا القواقع المتناثرة في الأعماق السحيقة. وساعدتني خبرتي البحرية الطويلة في الاستدلال على المواقع الملائمة لرمي المرساة, والانتظار لحين تلقي الإشارة من المحطات البعيدة باستئناف الملاحة في عرض البحر. فالمرساة تمثل عندي رمزا للحكمة والأمان, ومرحلة من مراحل الاستقرار والتأهب. وهي عند رجال البحر أداة من أدوات الفنون البحرية, وتعويذة للأساطيل العملاقة. وشعارا لكل الموانئ والمرافئ. وهي في نظر الديانات القديمة أيقونة للرجاء والخلاص. وبسبب علاقتي الوطيدة بها. رحت أغوص في بطون الكتب, باحثا عن سر تسميتها العالمية الموحدة الشائعة. فالكل يطلق عليها (أنكر). فحالفني الحظ في أن أكون أول من يكتشف. إنّ العراقيين هم الذين ابتكروها, وهم الذين أطلقوا عليها هذه التسمية. . ويكتبونها (أَنْجَرْ), لكنهم يلفظون الجيم على أصلها السامي. ولهذه التسمية جذورها الضاربة في عمق اللغات العراقية القديمة. فهي من رواسب اللغات السومرية والاكدية والآرامية, وتلفظ Angurrum، و Engurrum أيضا. ووردت في اللغة المندائية أيضا Angara. ورصد الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري هذه اللفظة. وصرح بعراقيتها. وقال: (والأَنْجَرْ مرساة السفينة، وهو اسم عراقي ). ويعود هذا اللفظ إلى الجذر(نجر). . وغمرتني فرحة عارمة وأنا أسجل هذا الاكتشاف, في البحث الذي نشرته معظم المجلات العلمية, وكان بعنوان (أَنْجَرْ السفينةعراقي الأصل), ونال البحث استحسان المراكز التخصصية على نطاق واسع. ووجدتها فرصة سانحة لمواصلة البحث في موضوع المراسي, وبخاصة تلك التي كانت تستخدمها السفن السومرية. فاكتشفت إن سفينة سيدنا نوح, وهي من أكبر السفن السومرية, كانت تحمل أربعة وعشرين مرساة مصنوعة من الحجر, ويصل وزن بعضها إلى عشرة أطنان. ولم يتبق من تلك المراسي سوى ثلاث عشرة مرساة, مازالت مبعثرة فوق قمة جبل الجودي في تركيا, في مكان ليس ببعيد عن الموصل. وكان البحث معززا بالصور الملونة, وحقق نجاحا منقطع النظير. ونشر البحث عام 2005 في جميع المواقع الالكترونية المعنية بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وكان بعنوان (مراسي سفينة سيدنا نوح). وكنت في حينها مديرا لقسم التفتيش البحري. . ثم دارت الأهلة دورتها فأصبحت معاونا لمدير عام الموانئ العراقية, وغرقت سفينتي في خضم بحر الملفات والمعاملات الإدارية المرهقة. وكان واجب الوفاء للمرساة, التي وفرت لي ولغيري الأمن والأمان, يحتم عليّ تخليدها في نصب تذكاري يوضع في واجهة بناية المقر العام للموانئ. وهكذا كان لي الدور الرئيس في تنفيذ هذا النصب التذكاري. . وكانت أول مرساة ارميها على اليابسة, وأضعها في مكان يبعد كثيرا عن خلجانها وأخوارها. وكنت كمن يزرع الزهور في صحراء الربع الخالي. فغضبت مني المرساة, وقطعت علاقتها بي. وتخلت عني تماما. لأني اقتلعتها من بيئتها البريئة, وحكمت عليها بالموت قهرا. فصبّت عليّ لعنتها, وطاردتني أسماك القرش حتى مزقت أشرعتي. وأجبرتني على التقوقع في كهوف النسيان. ثم شاءت الظروف بعد عام أن أكون مديرا لميناء خور الزبير. فارتكبت حماقة أخرى ورميت مرساتي الثانية فوق اليابسة. وعلقتها هذه المرة في بوابة الميناء. فثارت ثائرتها, ولم تعد تحتمل حماقاتي المتكررة, ومحاولاتي البائسة بإرساء المراسي خارج بيئتها المألوفة. ولم أكن أدرك حينها أنني تسببت في إضاعة مرساتي الثانية. إلى أن طاردتني لعنتها. واستقر بي المطاف من رحلتي المرهقة في صومعتي الشاطئية. فلجأت إلى البحر أمارس هوايتي القديمة بوجهي المبلل بالتعاسة. وكان البحر كريما معي كعادته, فأهداني مرساة جديدة. وها أنا أبحر بسفينتي من جديد, وانطلق مع النوارس البيضاء, وهي تجوب البحار, وتلامس بأجنحتها وجه الماء, غاسلة عنها هموم الطيور الحزينة الباحثة عن الملاذ الآمن. .
البصرة 6/2/2009
كاظم فنجان الحمامي
بيني وبين البحر حالة عشق تشهد عليها الفنارات المغروسة في قيعان الممرات الملاحية المرتبطة بخور عبد الله ورأس البيشة, وتعترف بها الشرايين النهرية المتفرعة من شط العرب. ولم تقلقني حقيقة خوفي من مزاجه المتقلب, وصخبه المروع. فقد كنت أعلم بأنني سألوذ بسفينتي في مكان آمن, وأرمي مرساتي, وأنتظر هناك ريثما تهدأ الأمواج العالية, وتسكن الرياح العاتية. ولا أغادر المرسى إلا بعد أن يعود البحر ضاحكا مبتسما, تدغدغه أسماك الزبيدي الناعمة البراقة, وتداعبه النوارس المحلقة في فضاءات الحرية, وهي تحمل الفرح بمناقيرها المكللة بقطرات الندى البحري. وهكذا تعمقت علاقتي بالمرساة منذ سبعينيات القرن الماضي. وكنت أحسن استخدامها, وأتفاهم معها بلغة لا تفهمها إلا السفن, ولا تفك رموزها إلا القواقع المتناثرة في الأعماق السحيقة. وساعدتني خبرتي البحرية الطويلة في الاستدلال على المواقع الملائمة لرمي المرساة, والانتظار لحين تلقي الإشارة من المحطات البعيدة باستئناف الملاحة في عرض البحر. فالمرساة تمثل عندي رمزا للحكمة والأمان, ومرحلة من مراحل الاستقرار والتأهب. وهي عند رجال البحر أداة من أدوات الفنون البحرية, وتعويذة للأساطيل العملاقة. وشعارا لكل الموانئ والمرافئ. وهي في نظر الديانات القديمة أيقونة للرجاء والخلاص. وبسبب علاقتي الوطيدة بها. رحت أغوص في بطون الكتب, باحثا عن سر تسميتها العالمية الموحدة الشائعة. فالكل يطلق عليها (أنكر). فحالفني الحظ في أن أكون أول من يكتشف. إنّ العراقيين هم الذين ابتكروها, وهم الذين أطلقوا عليها هذه التسمية. . ويكتبونها (أَنْجَرْ), لكنهم يلفظون الجيم على أصلها السامي. ولهذه التسمية جذورها الضاربة في عمق اللغات العراقية القديمة. فهي من رواسب اللغات السومرية والاكدية والآرامية, وتلفظ Angurrum، و Engurrum أيضا. ووردت في اللغة المندائية أيضا Angara. ورصد الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري هذه اللفظة. وصرح بعراقيتها. وقال: (والأَنْجَرْ مرساة السفينة، وهو اسم عراقي ). ويعود هذا اللفظ إلى الجذر(نجر). . وغمرتني فرحة عارمة وأنا أسجل هذا الاكتشاف, في البحث الذي نشرته معظم المجلات العلمية, وكان بعنوان (أَنْجَرْ السفينةعراقي الأصل), ونال البحث استحسان المراكز التخصصية على نطاق واسع. ووجدتها فرصة سانحة لمواصلة البحث في موضوع المراسي, وبخاصة تلك التي كانت تستخدمها السفن السومرية. فاكتشفت إن سفينة سيدنا نوح, وهي من أكبر السفن السومرية, كانت تحمل أربعة وعشرين مرساة مصنوعة من الحجر, ويصل وزن بعضها إلى عشرة أطنان. ولم يتبق من تلك المراسي سوى ثلاث عشرة مرساة, مازالت مبعثرة فوق قمة جبل الجودي في تركيا, في مكان ليس ببعيد عن الموصل. وكان البحث معززا بالصور الملونة, وحقق نجاحا منقطع النظير. ونشر البحث عام 2005 في جميع المواقع الالكترونية المعنية بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وكان بعنوان (مراسي سفينة سيدنا نوح). وكنت في حينها مديرا لقسم التفتيش البحري. . ثم دارت الأهلة دورتها فأصبحت معاونا لمدير عام الموانئ العراقية, وغرقت سفينتي في خضم بحر الملفات والمعاملات الإدارية المرهقة. وكان واجب الوفاء للمرساة, التي وفرت لي ولغيري الأمن والأمان, يحتم عليّ تخليدها في نصب تذكاري يوضع في واجهة بناية المقر العام للموانئ. وهكذا كان لي الدور الرئيس في تنفيذ هذا النصب التذكاري. . وكانت أول مرساة ارميها على اليابسة, وأضعها في مكان يبعد كثيرا عن خلجانها وأخوارها. وكنت كمن يزرع الزهور في صحراء الربع الخالي. فغضبت مني المرساة, وقطعت علاقتها بي. وتخلت عني تماما. لأني اقتلعتها من بيئتها البريئة, وحكمت عليها بالموت قهرا. فصبّت عليّ لعنتها, وطاردتني أسماك القرش حتى مزقت أشرعتي. وأجبرتني على التقوقع في كهوف النسيان. ثم شاءت الظروف بعد عام أن أكون مديرا لميناء خور الزبير. فارتكبت حماقة أخرى ورميت مرساتي الثانية فوق اليابسة. وعلقتها هذه المرة في بوابة الميناء. فثارت ثائرتها, ولم تعد تحتمل حماقاتي المتكررة, ومحاولاتي البائسة بإرساء المراسي خارج بيئتها المألوفة. ولم أكن أدرك حينها أنني تسببت في إضاعة مرساتي الثانية. إلى أن طاردتني لعنتها. واستقر بي المطاف من رحلتي المرهقة في صومعتي الشاطئية. فلجأت إلى البحر أمارس هوايتي القديمة بوجهي المبلل بالتعاسة. وكان البحر كريما معي كعادته, فأهداني مرساة جديدة. وها أنا أبحر بسفينتي من جديد, وانطلق مع النوارس البيضاء, وهي تجوب البحار, وتلامس بأجنحتها وجه الماء, غاسلة عنها هموم الطيور الحزينة الباحثة عن الملاذ الآمن. .
البصرة 6/2/2009