سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
اقرأ باسم ربك الذي خلق [1]
قرأ لغةً تلا وأبلغ(1). وتقرَّأَ: تفقَّه وتنسَّكَ(2). وقوله تعالى: "اقرأ" بمعنى انْطُقْ(3) واشْهَد(4) وأبلغ وتفكَّر(5)! وبيان ذلك قوله ــ عزَّ وجلَّ ــ:
"الرحمنُ * علَّم القرآن * خَلَقَ الإنسان * علَّمه البيان"(6).
"اقرأ باسم ربّك": اقرأ مفتتحاً باسم ربِّك، أيْ قل: بسم الله، ثم اقرأ(7).
"الذي خلق": إشارة توحيد خالصة لله، فالخالق هو الله، والمستعان على القيام بجميع الأمور هو الله، والمعبود هو الله، والرازق والمنجي... هو الله.( والمراد بقوله: "الذي خَلَق" هو خلْق الإنسان، وإنما قال "الذي خلق" مبهماً ثم فسره بقوله "خلق الإنسان" تفخيماً لخلْق الإنسان، ودلالة على عجيب فطرته(9).
خَلَقَ الإنسانَ من عَلَق [2]
قوله: "خلق الإنسان" للدلالة على المراد بالخلق المذكور في الآية السابقة، وقد خص الإنسانَ بالذِّكر من بين ما يتناوله الخلق لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض(10).
"مِن عَلَق": من عناصر وخلايا يتعلَّق بعضها ببعض. قال ابن فارس:
{العين واللام والقاف (علق): أصل كبير صحيح يرجع إلى معنى واحد، وهو أن يُناط الشيء بالشيء. ثم يتسع الكلام فيه، والمرجع كله إلى الأصل الذي ذكرناه.}(11)
وقيل أن المراد بقوله: "من علق": ما تستحيل إليه النطفة في الرحم(12).
اقرأ وربُّكَ الأكرمُ [3]
يُكرر ــ سبحانه ــ الأمرَ بالقراءة حثاً عليها وبياناً لفائدتها(13).
الذي علَّم بالقلم [4]
عَلِمَ الأَمْرَ وتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ(14). و"القَلَمُ": القصبة بعد البري(15). والباء في كلمة "بالقلم" للسببية أيْ بواسطة القلم(16)، والمقصود عِلْم التدوين، من خط وكتابة. وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى أن الله ــ سبحانه وتعالى ــ هو الذي هدى الإنسانَ إلى الكتابة وأعانه على تطوير ذاك العِلم، ولولا الكتابة لَمَا كانت هناك قراءة، وبدون القراءة والكتابة لا يمكن أن تتطور العلوم والمعارف..
علَّم الإنسان ما لم يعلم [5]
بياناً لفضل الله على عباده، وإشارة إلى حاجة الإنسان الدائمة إلى الزيادة في العلم والمعرفة..
كلا إن الإنسان لَيطغى [6]
"كلا": حرف ردع وزجر وتنبيه(17).
طغى: جاوز القَدْرَ وغلا، وأطغاه المالُ: جعله طاغياً(18). واللام في فِعل "لَيطغى" هي اللام المزحلقة(19) وتفيد التوكيد.
وقوله: "إن الإنسان لَيطغى": إخبار بما في طبع الإنسان(20)، وهو مثل قوله تعالى:
"وإنْ تعدوا نِعْمَتَ اللهِ لا تحصوها إنَّ الإنسانَ لَظلومٌ كفَّار"(21).
أنْ رآه استغنى [7]
"أنْ رآه": أنْ رأى نفسَهُ(22)، ومعنى الرؤية: العِلم(23)، أيْ رؤية قلبية ولذلك جاز أن يعمل فِعل الفاعل في نفسه كما تقول وجدتني(24).. وتقدير الآية: إنَّ الإنسانَ لَيتجاوز حدَّه ويستكبر عندما يرى نفسه مستغنٍ عن ربِّه..(25)
وقد وردتْ هذه الآية بهذه الصيغة لحاجة فِعل "رأى" إلى اسم وخبر(26)، وكذلك تفعل العرب في كل فِعل اقتضى الاسم والفِعل(27)، إذا أوقعه المخبر عن نفسه على نفسه، مكنياً عنها فيقول: متى تُراك خارجاً؟ ومتى تحسبك سائراً؟(28) قال ــ تعالى ــ:
"إني أراني أعصر خمراً"(29).
أيْ: إني أرى ــ في نومي ــ أني(30) أعصرُ عنباً.
إنَّ إلى ربِّك الرُّجعى [8]
"الرُّجعى": الرجوع والمَرجع(31)؛ تقول: رَجَعَ يرجِعُ رُجوعاً: إذا عاد(32). ومعنى الآية:
إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك من أين جمعتَهُ وفيمَ صرفتَهُ(33).
أرأيتَ الذي ينهى [9]
تقدير الآية: أرأيتَ يا محمد الشخصَ الذي ينهى. والاستفهام بكلمة "أرأيتَ" للتعجُّب(34). وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي جهل(35).
عبداً إذا صلَّى [10]
العبد هنا هو سيدنا محمد ــ ص ــ(36).
أرأيتَ إنْ كان على الهدى [11]
يتحوَّل الخطاب(37) من محمد إلى أبي جهل فيقول الله: أرأيتَ يا أبا جهل(38) إن كان الذي تنهاه على الهدى(39). وفي هذا التحوُّل إشارة لطيفة، وهي وعظ الله ــ تعالى ــ لأبي جهل بالتي هي أحسن(40)، وذلك عبر الرسول محمد وقرآنه، وفي هذا الأسلوب درس تربوي وتعليمي ــ إنساني وديني ــ(41)..
أو أمَرَ بالتقوى [12]
أو أَمَرَ ذاك العبد ــ والذي هو محمد(42) ــ بالتقوى(43).
أرأيتَ إنْ كذَّب وتولَّى [13]
يعود الخطاب إلى النبي الكريم، فيقول:
أرأيتَ(44) يا محمد(45) إنْ كذَّب وتولَّى ذلك الجاهل الذي ينهاك عن صلاتك وعبادتك.
ألمْ يعلم بأنَّ اللهَ يرى [14]
ألمْ يعلم أبو جهل بأن الله يراه فيخاف سطوته وعقابه(46).
كلا لئن لم ينتهِ لنسفعا بالناصية [15]
"كلا": ردع وزجر(47). والهاء في كلمة "ينتهِ" عائدة إلى أبي جهل. والسّفع: الأخذ والقبض(48). والناصية مقدم الرأس والوجه(49).
ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ [16]
الوصف للناصية والمعنى لصاحبها(50)؛ وهي ناصية أبي جهل، كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها(51).
فليدعُ ناديه [17]
النادي: المجلس. ومعناه: فليدع أهل مجلسه من عشيرته وقومه..(52)
سندعُ الزبانية [18]
"الزبانية": واحدها "زِبْنِيَة"، من "الزبن"، وهو الدفع(53). ويقصد بهم الملائكة الغلاظ الشداد، أو ملائكة العذاب(54).
كلا لا تُطعْهُ واسجدْ واقترب [19]
"كلا": ردع وزجر(55). والهاء في كلمة "تطعْهُ" عائدة إلى أبي جهل. والأمر بالسجود والاقتراب لسيدنا محمد ــ ص ــ، وفي الحديث:
"أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سَجَدَ".(56)
(1) القاموس المحيط. قرأ. (يقال: قرأ عليه السلامَ يقرَؤُهُ عليه وأقْرَأهُ إياه: أبلغه. لسان العرب ـ قرأ)
(2) لسان العرب.
(3) قرأ القرآن: لفظه. [لسان العرب] وقرأ الكتاب: نطق به. [المنجد في اللغة]
(4) يقال: الناس قوارئ الله تعالى في الأرض. أي: هم الشهود. [راجع مقاييس اللغة، ابن فارس] يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: "اقرأ كتابَك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً". [الإسراء، 14]
(5) يقال "قرأ الكتاب" إذا نطق بالمكتوب فيه أو ألقى النظر عليه وطالعه. [المنجد في اللغة]
(6) سورة الرحمن، 1-4.
(7) الكشاف، الإمام محمود بن عمر الزمخشري، دار الكتاب العربي، ترتيب وضبط وتصحيح مصطفى حسين أحمد، مج4، ص775. يقول العلامة الطباطبائي أن الباء في قوله "باسم ربك" للملابسة. [تفسير الميزان] ويقول ابن عربي: الباء للاستعانة كقولنا كتبتُ بالقلم. [تفسير القرآن الكريم] وقد قيل في هذه الباء أنها زائدة وتقدير الجملة: اقرأ اسمَ ربك. [مجمع البيان..]
( يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في شرح هذه الآية الشريفة: إشارة إلى قصر الربوبية في الله ـ عز اسمه ـ، وهو توحيد الربوبية المقتضية لقصر العبادة فيه، فإنّ المشركين كانوا يقولون: إن الله ـ سبحانه ـ ليس له إلا الخلق والإيجاد، وأما الربوبية وهي الملك والتدبير فلمقربيّ خلقه من الملائكة والجن والإنس، فدفعه الله بقوله: "ربك الذي خلق": الناصّ على أن الربوبية والخلق له وحده. [تفسير الميزان، مج20، ص370-371]
(9) الكشاف، الزمخشري. [وفتح القدير، وتفسير البيضاوي. ](انظر قوله تعالى: "الرحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان".)
(10) الكشاف.
(11) مقاييس اللغة، مادة: علق.
(12) الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي.
(13) قيل في "اقرأ" الثانية أنها أمر لسيدنا محمد أن يقرأ القرآن للناس بينما الأولى أن يقرأ القرآن لنفسه، إلا أن الأوضح أن تكون للتأكيد. [انظر الميزان في تفسير القرآن]
(14) لسان العرب.
(15) واللفظة معربة عن "قَـلـَموس" اليونانية ومعناها القصبة. [المنجد في اللغة]
(16) الميزان في تفسير القرآن.
(17) قيل في "كلا" أنها بمعنى: حقاً، وقد قال سيبويه: كلا: حرف ردع وزجر. وقال الزجاج: كلا: ردع وتنبيه. وقال الزمخشري: ردع. [انظر إعراب القرآن الكريم وبيانه، محي الدين الدرويش، ط: اليمامة ودار ابن كثير، ط5، مج10، ص530. والكشاف للزمخشري]
(18) لسان العرب.
(19) اللام المزحلقة هي لام غير عاملة، وتسمى المزحلقة لأن أصلها ابتدائية فزُحلقتْ إلى منتصف الجملة منعاً من الابتداء بتوكيدين.. [قصة الإعراب، الخوص] ومنها قوله تعالى: "قالوا أإنك لأنت يوسف". [سورة يوسف، 90]
(20) الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي.
(21) سورة إبراهيم، 34.
(22) إعراب القرآن للدرويش.
(23) الكشاف.
(24) تفسير الثعالبي.
(25) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي.
(26) يريد: يتعدى فعل "رأى" إلى مفعولين؛ وهو من أفعال القلوب، وسمِّيتْ تلك الأفعال "أفعال قلوب" لأنها إدراك بالحس الباطن، فمعانيها قائمة بالقلب. وليس كل فِعل قلبي ينصب مفعولين، بل منه ما ينصب مفعولاً واحداً كـ: عَرف، وفـَهـِمَ. ومنه ما هو لازم كـ: حَزن، وجبن. [جامع الدروس العربية، الشيخ مصطفى غلاييني، المكتبة العصرية، ط30، ج1، ص35-36]
(27) تعدي إلى مفعولين.
(28) تفسير الطبري.
(29) سورة يوسف، 36.
(30) تفسير الطبري. ومن العرب مَن يُسمي العنب خمراً. [الطبري، ومجمع البيان للطبرسي] قال الزجاج وابن الأنباري: إن العربَ تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى ولم يلتبس، يقولون: فلان يطبخ الدبس. وإنما يطبخ اللبن والعصير. [مجمع البيان، الطبرسي]
(31) لسان العرب.
(32) مقاييس اللغة.
(33) تفسير ابن كثير.
(34) الميزان في تفسير القرآن.
(35) تفسير الطبري. وقيل: إن ظاهر الآية أن المراد فيها هو الإنسان المتقدم ذكره، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل، ثم يعم في الكل؛ لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه. [مفاتيح الغيب: التفسير الكبير، الإمام محمد الرازي، دار الفكر، قدم له الشيخ خليل محي الدين الميس ـ مدير أزهر لبنان ومفتي البقاع، مج16، ج32، ص21]
(36) تفسير الرازي. ونظير هذه الكناية قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده". و: "أنزل على عبده". [الرازي]
(37) من حيث التقدير والمعنى، لا من حيث المخاطبة.. (والتحول في الخطاب واضح، والله أعلم)
(38) تفسير القرطبي. وانظر: تفسير الرازي.
(39) محمد ـ ص ـ. [تفسير الطبري]
(40) تفسير ابن كثير.
(41) إن في هذا النوع من الخطاب أعظم فائدة من حيث يبين حالة أبي جهل التي ابتدأت به ـ إسلامياً ـ وما زالت مستمرة على مرّ الزمان، حالة مَن ينهى عن تعبد شخص لخالقه قبل أن يحاول معرفة حقيقة عبادته، وقد كان الأولى به أن ينظر: هل ذاك المتعبّد على الهدى؟ أم لا؟ وهل سيرته وصفاته حميدة؟.. ويحيط هذا الوعظ التربوي من طرفيه خطاب الله لنبيه: أرأيت أيها النبي ذاك الذي ينهاك بجهل عن الحق؟ أرأيت إنْ كذب وتوَّلى..
(42) تفسير الطبري.
(43) يبين هنا الله سبيل نشر الدعوة، وهو: أن يكون الشخص على هدى بينه وبين ربه، في أمر دينه ودنياه، ثم يأمر بما اهتدى إليه.. أيْ: هداية، قولاً وعملاً، ثم أمراً.
(44) الاستفهام للتعجّب.
(45) تفسير الرازي، والطبري..
(46) تفسير الطبري.
(47) إعراب القرآن، الدرويش.
(48) إعراب القرآن، الدرويش.
(49) تفسير الطبري. المنجد في اللغة.
(50) تفسير الطبري. ومجمع البيان، الطبرسي.
(51) تفسير ابن كثير.
(52) تفسير الطبري. الميزان في تفسير القرآن.
(53) إعراب القرآن، الدرويش. تفسير الرازي.
(54) تفسير الرازي..
(55) إعراب القرآن، الدرويش.
(56) تفسير الرازي.